البابا ديسقورس

قداسة البابا المعظم الأنبا ديسقوروس الأول، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ ٢٥

نشأته

تلقبه الكنيسة “بطل الأرثوذكسية”، كان شيخًا وقورًا، جمع بين الروحانية والعمق الدراسي اللاهوتي والشجاعة المسيحية والصلابة في الحق والرغبة في التضحية حتى الموت من أجل الإيمان

ولد قديسنا العظيم ديسقوروس في الأسكندرية وتلقى العلم بمدرستها اللاهوتية وأظهر نبوغا في علومها اللاهوتية، فكان قبطيا من عائلة قبطية وقد درس اليونانية وتكلم بها

إختاره البابا كيرلس الـ ٢٤ من باباوات الأسكندرية، تلميذا له وإصطحبه البابا معه في المجمع المسكوني الثالث حيث كان يشغل منصب ناظر المدرسة اللاهوتية بالأسكندرية

ارتقى الكرسي المرقسي في عام ٤٤٤ م، في عهد ثيؤدوسيوس الصغير خليفة للقديس كيرلس، وترجع قصة اختياره عندما انتقل الأنبا كيرلس عامود الدين إلى عالم الأحياء، أن اتفقت كلمة الإكليروس والشعب على انتخاب سكرتيره ديسقوروس ليخلفه على الكرسي المجيد

وقد اقترنت نواياه بالنية المتقدة والشجاعة المتناهية وسرعة البديهة وقد تعلم في مدرسة الإسكندرية التي تخرج منها جميع البارزين من رجال عصره، فنبغ في العلوم الروحية والفلسفة، ولما كان متصفا بهذه الفضائل كلها فقد كان خير من يخلف البابا كيرلس العظيم

و يمكن القول في أيام هذا البابا انشطرت الكنائس المسيحية إلى شطرين وهما: ذو الطبيعة الواحدة – وذو الطبيعيتين، ولم تكن الكنائس المسيحية على وفاق مع بعضها؛ والسبب طمع أساقفة روميه ورغبتهم في السيادة العامة على الكنيسة المسيحية في كل العالم، ولم يكن الأسقف الروماني يخشى بطش أحد من رؤساء الكنائس سوى بابا الإسكندرية

و في أيامة كان هناك ارشمندريت رئيس دير في القسطنطينية اسمه أوطاخي تطرف في تعبيره عن سر التجسد إلى أن قال : طبيعة واحدة للمسيح وأن جسده مع كونه جسد إله ليس مساويًا لجسدنا في الجوهر، لأن الطبيعة البشرية على زعمه قد ابتلعت واندثرت في الطبيعة الإلهية

وقد ادعوا زورًا وبُهتانًا بأنهم حرمو البابا ديسقوروس ونفوه لأنه شريك أوطاخي! و قام البابا بعمل مجمع منكرًا فيها الامتزاج والاحتفاظ والاستحالة، ورفض أوطاخي وتبعته في ذلك الكنائس التي كان منها كالكنيسة القبطية والسريانية وغيرها

حدث بعد وفاة الملك ثيؤدوسيوس الصغير عام ٤٥٠ م، الذي تلقبه الكنيسة بالملك الأرثوذكسي، أن اعتلى عرش المملكة الملك مرقيان وزوجته الملكة بولكريا، وفي هذا الوقت الذي احتدم فيه الجدل اللاهوتي حول طبيعة السيد المسيح كانت المؤامرات تحاك ضد كنيسة الإسكندرية وأساقفتها العظام، بِسَعيّ من لاون أسقف روما لدى الملك مرقيان وزوجته

دعي إلى المجمع الخلقدوني بأمر الملك مرقيان، و فيما قبل المجمع رأى جمعًا كبيرًا من أساقفة يبلغ عددهم ستمائة وثلاثين أسقفًا، فقال ما هو الذي تنقصه الأمانة حتى اجتمعت هذه الجماعة العظيمة؟ فقالوا له أن هذه الجماعة اجتمعت بأمر الملك، فقال أن كان هذا المجمع بأمر السيد المسيح، فأنا أحضره، وأتكلم بما يتكلم به الرب على لساني وان كان قد اجتمع بأمر الملك، فليدبر الملك مجمعه كما يريد

 وإذ رأى أن لاون بطريرك رومية قد علم أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين من بعد الاتحاد فقال “إن المسيح واحد، هو الذي دعي إلى العرس كإنسان، وهو الذي حول الماء خمرًا كإله، ولم يفترق في جميع أعماله”، واستشهد بقول البابا كيرلس، إن اتحاد كلمه الله بالجسد، كاتحاد النفس بالجسد، وكاتحاد النار بالحديد، وان كانا من طبيعتين مختلفتين، فباتحادهما صارا واحدًا

 فلم يجسر أحد من المجتمعين في المجمع أن يقاومه وقد أعلموا الملك مرقيان والملكة بلخاريا، أنه لم يخالف أمركما في الأمانة إلا ديسقورس بطريرك مدينة الإسكندرية، فاستحضراه هو والمتقدمين في المجمع من الأساقفة، واستمروا يتناقشون ويتباحثون إلى أخر النهار، والقديس ديسقورس لا يخرج عن أمانته

حاول البعض أن يستميلوه لكي يوافق على طومس لاون أسقف روما الذي يثبت الطبيعتين في شخص المسيح بعد الاتحاد، فرد قائلًا: إن اعتقاد البيعة ينبغي ألا يٌزاد عليه أو ينقص منه، فالمسيح واحد بالطبع والجوهر والعقل والمشيئة كما علّم الآباء

وحدث أن أحد الأساقفة المجتمعين في قصر الملك أخذ يوجه الكلام إلى البابا ديسقورس طالبًا أن يذعن لرغبة الملك ولا يخالفه لكي يبقى في منصبه، فما كان من ديسقورس إلا أن قال له: إن الملك لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة بل ينبغي عليه أن ينشغل بأمور مملكته وتدبيرها، ويدع الكهنة يبحثون موضوع الإيمان المستقيم، فإنهم يعرفون الكتب، وخير له أن لا يميل عن الهوى ولا يتبع غير الحق

دٌهش الجميع من جرأته، وهنا قالت الملكة بولكريا: “يا ديسقورس لقد كان في زمان والدتي أفدوكسيا إنسان عنيد مثلك (تقصد القديس يوحنا ذهبي الفم) وأنت تعلم أنه لم يرَ من جراء مخالفته خيرًا، وأنا أرى أن حالك سيكون مثله”، فأجابها بكل جرأة: وأنتِ تعرفين ما جرى لوالدتك نتيجة اضطهادها لهذا القديس وكيف ابتلاها الله بالمرض الشديد الذي لم تعرف له دواء ولا علاجًا حتى مضت إلى قبره وبكت عليه واستغفرت الرب فعوفيت، وهأنذا بين يديك فافعلي ما تريدين، وستربحين ما ربحته أمك

كانت نتيجة هذه الإجابة الشجاعة أن تهجمت هذه الملكة الشريرة ومدت يدها وصفعته صفعة شديدة اقتلعت ضرسين من أضراسه نظرًا لشيخوخته، وما لبث أن انهال عليه بعض رجال القصر وأوسعوه ضربًا، وإمعانًا في الاستهزاء به نتفوا لحيته! أما هو فبقى صامتًا محتملًا ويقول: “من أجلك نُمات كل النهار”، ثم جمع الأب الضرسين مع شعر لحيته، وأرسلهما إلى شعبه بالإسكندرية مع رسالة يقول فيها: هذه ثمرة جهادي لأجل الإيمان، اعلموا أنه قد نالتني آلام كثيرة في سبيل المحافظة على إيمان آبائي القديسين

أما بقية الأساقفة فإنهم لما رأوا ما جرى لديسقورس، وافقوا الملك، لأنهم خافوا أن يحل بهم ما حل به، فوقعوا بأيديهم على وثيقة الاعتقاد بأن للمسيح طبيعتين مختلفتين مفترقتين، فلما علم ديسقورس، أرسل فطلب الطومس زاعمًا أنه يريد أن يوقع مثلهم، فلما قرأه كتب في أسفله بحرمهم وحرم كل من يخرج عن الأمانة المستقيمة

ما لبث أن عُقد المجمع بأمر الملك في مدينة خلقيدونية سنة ٤٥١ م، استخدم الضغط والإرهاب ضد الأساقفة، واتبع سبل المؤامرات الدنيئة، فكانت النتيجة أن صدر حكم المجمع على البابا ديسقورس غيابيًا، بعد أن حيل بينه وبين حضور المجمع

وذكر البابا في “اعترافات الآباء” يقول فيها “يجب علينا أن نقلع ونخرج عن كل من يقول أن الله الكلمة تألم بلاهوته أو مات، نحن لا نؤمن هكذا بل أن الله الكلمة صار جسدا بحق وبقى بلا ألم ولا موت بالجملة بلاهوته، لكن قوما يظنون ويقولون أننا إذا قلنا أن المسيح تألم بالجسد لا باللاهوت نوجد هذا القول موافقين لمجمع خلقيدونية ونحن نجيبهم ونقول “إذا كان أهل مجمع خلقيدونية يعترفون أن الله تألم بالجسد لا باللاهوت فإننا نوافقهم” ثم يختم البابا ديسقوروس كلامه بطبيعة واحدة للأقنوم الواحد الذي هو الابن الواحد المتجسد، مستشهدًا بأثناسيوس وبكيرلس

صادق الملك على قرار المجمع وأصدر أمره بنفي البابا ديسقورس إلى جزيرة غاغرا بآسيا الصغرى، ولما مضوا بالقديس ديسقورس إلى جزيرة غاغرا، قابله أسقفها مظهرًا الاستخفاف بشأنه والاستهانة بشخصه، لأنه كان نسطوريًا

وكان القديس ديسقورس ومن معه من الأساقفة المصريين ينشرون نور الإنجيل ويبشرون أهل ذلك المكان وقد أظهر الله على أيديهم آيات وعجائب، وبقى في منفاه مدة خمس سنوات، وقد عانى آلامًا شديدة من سكان ذلك المكان القساة بصبر تام حتى تنيح في عام ٤٥٧ م

قالوا عنه

الأنبا ساويرس المؤرخ : وقد استمر البابا ديسقوروس بجزيرة غاغرا حتى أخذ إكليل الشهادة من مركيان الملك، “ولعله يقصد أنه مات من شدة الألم والصعوبات التي تلقاها من ذلك الملك”، فناحت الكنيسة المصرية على رئيسها واستمرت محافظة على الإيمان الذي قضى حياته في الدفاع عنه

الأستاذ اليونانى الأب رومانيدس: لقد حُسب ديسقورس أرثوذكسيًا تمامًا في إيمانه في نظر بعض الآباء القادة في مجمع خلقيدون مثل أولئك الذين مثّلوا أناتوليوس بطريرك القسطنطينية

الأب ميثوديوس مطران أكسيوم: المعلومات التي لدينا لا تصور ديسقورس كهرطوقى، فمن المعلومات التي بين أيدينا واضح أنه كان إنسانًا صالحًا، بل والأسقف لاون نفسه حاول أن يكسبه إلى جانبه

الإمبراطور ثيؤدوسيوس: في خطاب بعث به إلى ديسقورس دعاه فيه إنسانًا تشع منه نعمة الله، وديعًا، أرثوذكسي الإيمان